أنا هبه أم لثلاث أطفال توحديين بدايةً أحب أؤكد على أن كل طفل من أطفالي مختلف جدا عن الآخر وإن اشتركوا في التشخيص، نبدأ بابني البكر الله يحفظه حمله كان مكتمل، والولادة كانت قيصرية، كان من بداية الطفولة كأي طفل تصرفاته طبيعية من ناحية النمو والتطور، ثم بعد السنة الأولى لاحظت عليه أنه يبتسم إذا فتحنا الفلاش على وجهه، دون تواصل بصري فمَا كان ينظر في عين الشخص الذي يفتح الفلاش. أيضا لاحظت أنه يتكلم باللغة العربية الفصحى ويحب الأرقام والحروف الانجليزية وكان متعلق فيها بشدة. كان يحب يصفف ويضع الأغراض بشكل عمودي أو أفقي المهم أنها في شكل صف، عندما اجتمعت عندي هذه الملاحظات قررت أخذه إلى مستشفى الولادة والأطفال، وهناك أجريت له مجموعة من التقييمات، وكان تشخيص الطبيب له اضطراب طيف التوحد من الدرجة البسيطة يعني أن أعراضه خفيفة، فهو كان يتبع التعليمات اللفظية التي توجه له، وعنده إدراك جيد نوعا ما للبيئة من حوله، بعد أن تم التشخيص ذهبنا إلى التأهيل الشامل ومن هناك تم توجيهنا إلى تسجيله في مركز رعاية نهارية للتوحد، كنت راضية والحمد لله إلا أن نفسيتي كانت متعبة جدا، ما بين كثرة المراجعات والمتابعات وتعدد الجهات التي ذهبت لها.
بدأ ابني في الذَّهاب بانتظام إلى مركز التوحد بالظهران وكان التطور ملحوظًا بشكل كبير ما شاء الله، قدم الطاقم لي الكثير من المساعدة بدءًا من تعليم الحمام للنطق للاعتماد على النفس، وخلال سنتين صار إدراكه أكبر وأفضل اللهم لك الحمد. وبفضل الله تخرج من ابني من مركز التوحد بعد سنتين ما شاء الله تبارك الله، ولأن مهارته الأكاديمية كانت عالية وهو طفل ذكي ربي يحفظه، سجلته في مدرسة في المسار العام وتم قبوله في الصف الثاني الابتدائي، والآن وصل ابني للصف الأول متوسط، وفقه الله ويسر دربه وسخر له كل من لقاه.
بعد سنتين من ولادة طفلي الأول، رزقني الله وحملت بالطفل الثاني، الولادة كانت طبيعية إلا أنه وصل للدنيا مبكرًا فهو طفل خديج. في البداية كان كأي طفل يتواصل بصريا معي ويناغي ويقول ماما وبابا، ثم بعد أن أكمل عامه الأول انتكس فلم يعد يقول الكلمات التي سبق ونطقها،
حتى تواصله لم يعد كما كان، قلقت وبدأت أبحث عن المشكلة وراجعت المستشفيات لما يقارب السنة حتى تم تشخيصه بالتوحد، ولكن من الدرجة المتوسطة، فأعراضه كانت عدم الالتفات عند مناداته، إصدار أصوات باستمرار، وكثرة البكاء وكان يحب اللعب في أي شيء يستثير
ويستفز الإحساس اللمسي عنده، مثل الطحين أو الماء أو المواد ذات القوام اللزج.
هذه المدّة من حياتي كانت متعبة جدا، كنت مشغولة بتدريب وتنمية طفلي الأول، وبنفس الوقت في دوامة المراجعات والتشخيص لطفلي الثاني. ثم جاءت أزمة كورونا، وأغلقت المراكز التأهيلية أبوابها، وبقي ابني دون تدخل مبكر مدة عام تقريبًا، واكتشفت أني لن أستطيع مساعدة ولدي الثاني إلا عن طريق تعليم نفسي كي أستطيع أن أدربه، حجم الإرهاق والتعب النفسي والجسدي كان كبيرًا جدا، فأنا موظفة بدوام كامل، وبعد انتهاء دوامي أعود للبيت لأبدأ الجلسات التي تعلمتها من الإنترنت أو من أي اختصاصي متمرس.
من فضل الله علي دعم الأهل ومساندتهم لي فيقومون بالتدريبات مع طفلي، كما أن وجود عاملة منزلية ساعدني أتفرغ بعد انتهاء الدوام للجلسات والتدريبات.
بعد انتهاء فترة كورونا، صار عمر ابني الثاني ٤ سنوات، وسجلته في مركز التوحد بالظهران، أعجز عن شكرهم وتقديرهم لجهودهم الجبارة، فهم ساعدوني على تخطي مراحل صعبة جدا، وكان من أصعبها مهارة تعليم الحمام ليستقل الطفل ويعتمد على نفسه أكثر، استمر ابني في المركز سنتين إلى أن أصبح في سن الدخول للمدرسة.
وكما ذكرت فإن أعراض طفلي الثاني لم تكن خفيفة، وكذلك تصرفاته وسلوكياته كانت أكثر شدة وكان التعامل معه أصعب، لم يكن مرنا وأكثر سلوكيات مرتبط بمشاكل حسية لديه.
وبفضل الله ثم بفضل التدريبات في البيت والمركز تحسن إدراكه وزاد تركيزه، فهو ينفذ التعليمات اللفظية ومهاراته الأكاديمية تطورت كثيرًا، فضلت أن يكمل تعليمه في مدرسه خاصة بالتوحد، ثم سجلته في مدرسه فلسطين للتوحد وإلى اليوم هو فيها يتعلم القراءة والكتابة
والرياضيات بشكل مبسط.
قبل كل شي الحمد لله دائمًا وأبدًا والحمد لله على كل حال، رزقني أطفال يجبرون الخاطر قلوبهم ممتلئة بالحنان وأذكياء جدا الله يحفظهم، أتوقع أن عدم دخول طفلي الثاني لبرنامج التدخل المبكر أثر على مستوى تطوره بسبب أزمة جائحة كورونا.
أرى أن أفضل ما تقدمه الأم بحق الطفل أن تكون واعية لملاحظة نمو طفلها، ولو انتبهت لأي أعراض ولو كانت خفيفة ألا تنتظر إلى أن يكبر، فمن الممكن أن تزيد الأعراض شدة أو يفوت عليهم فرصة التدخل المبكر، وذلك أفضل من الندم والتحسر إذا كبر الطفل وصعبت عليك الجلسات.
بعد ٦سنوات من ولادة طفلي الثاني، رقني الله بحملي بطفلي الثالث الذي كانت ولادته قيصرية، كنت سعيدة جدا به وكلي أملٌ ألا يكون طفل مصاب بالتوحد، نموه وتطوره كان جدا طبيعي، وتواصله كان جدا رائع، وأصوات ألأطفال التي تصدر عنه تشبه أصوات أي طفل آخر، إلا أنني لاحظت حبه الكبير وتركيزه العالي لسماع الارقام. وعندما بدأ يمشي مشى على أطراف أصابعه، هنا خفت وشعرت بحاجتي لاستشارة مختص، وكان كل من حولي يقولون لي إنه صغير جدا ويصعب تشخيص أي طفل دون عمر السنتين، لكني لم أيئس واستشرت عددا من الأطباء الاستشاريين وطفلي بعمر السنة و٨ شهور، أتفهم عدم قدرتهم على التشخيص وكونه في موضع الشك، واحتمالية كون التصرفات مكتسبة من إخوانه، لكن الأفضل حتى لو لم نكن متحقِّقين من وجود التوحد أن نبدأ بالتدخل مبكرًا.
كان طفلي الثالث يرفرف بيديه إذا شعر بالسعادة مثل أخويه، وكان يحب الأرقام والعمليات الحسابية البسيطة كثيرًا، وكان يهز جسده إذا جلس على الكرسي مثل أخيه الثاني، وهذا ما جعلني أشك هل سلوكه مكتسب ممن حوله أم أن هذه أعراض لتشخيصه بالتوحد؟
بعد ذلك طلبت له تقريرًا يساعدني ويفيد بوجود أعراض التوحد لكي نبدأ بالتدخل المبكر بشكل أسرع وكذا التاريخ المرضي والأعراض ليعرف الطبيب الاستشاري منها إذا الطفل لديه توحد أم لا، بغض النظر عن شدة الأعراض، ثم انتهينا من إجراءات مركز التأهيل الشامل وسجلته بمركز رعاية نهارية، وطبعًا وللأبد ممتنة قمت باختيار مركز التوحد بالظهران.
الآن طفلي أتم معهم سنتين منذ سجلته، وتطور بشكل كبير جدا، أعجز عن التعبير عن الفرحة التي أشعر بها كلما أقبل عليّ وهو يناديني ماما ماما! عمر ابني الصغير الآن 4 سنوات، ويتواصل بشكل رائع ما شاء الله تبارك الله، ولم يعد يمشي على أطراف أصابعه كالسابق، وإدراكه عالي ويستجيب للأوامر والحمد لله على كل حال الأطفال أجمل ما في الحياة ووجودهم سعادة في حد ذاته، حتى مع عجزهم أشعر بطمأنينة أنني أستطيع تربية أولادي تربية سليمة بعيدة عن تأثير الأمور التي أفسدت الجيل الجديد، صحيح تبقى هناك بعض المخاوف من العالم الخارجي، لكن طالما أنا معهم أول بأول أعلمهم وأنبههم، وهذا يجعلني بفضل الله مطمئنة.
أحب أن أوجه كلمة للأمهات:
لا تغرقي في الشعور بالضعف والحزن إذا اكتشفت أن طفلك مشخص بالتوحد، وتذكري إن هذا التشخيص ليس نهاية العالم، الآن أصبح عندنا جهات ومؤسسات كثيرة معنية تهتم بتأهيل وتدريب الأطفال ليعيشوا حياة كريمة كحياة الكثير من الناس. وتوجد أمثلة لكثير من الأطباء والمهندسين والممثلين والعلماء من المشخصين باضطراب طيف التوحد، أحبي الحياة معهم وعيشيها والعبي معهم، وانزلي لمستوى عقولهم، وستجدين نفسك سعيدة وتضحكين كثيرًا، ولا تلقي بالًا لكلام الناس ولا أهمية لرأيهم، فالناس لا يعيشون تجربتك ولا يعرفون حياتك، واطلبي المساعدة إذا شعرت بالعجز يومًا ما.
وأخيرًا، اجعلي نفسك في المقدمة، نعم في المقدمة فأنت الأهم، دللي نفسك واهتمي بها كثيرا فعلى قدر عطائك لنفسك ستكونين قادرة على تقديم الكثير لأطفالك…
هبه الزهـرانـي
12/02/2025